يوميات رجل .......

[الجوري]

مقدمة: على حافة الصوت

ليست هذه اليوميات سردًا…
بل هي محاولة رجلٍ أن يكتب كي لا يختفي.
أن يترك أثرًا يشبه البخار على زجاج نافذته في الصباح البارد،
أثرًا يذوب سريعًا، لكن أحدًا قد يمرّ به،
ويرى فيه وجهاً… أو وهماً… أو حياة.

هو لا يتكلّم كثيرًا، بل ينصت.
للأشياء التي لا يراها أحد،
لصوت الماء حين يغلي في صمت،
لصرير الخشب تحت خطواته البطيئة،
للصمت الذي يضع يده على كتفه كل صباح دون أن يقول له شيئًا.

لا شيء استثنائيّ في حياته،
وكلّ شيء فيها عميق بما يكفي ليُورق في ذاكرة شخصٍ آخر.
يشرب قهوته كأنها صلاة،
يدخّن كأن كل نَفَس يسرق من روحه جملةً لم تُكتَب بعد،
ينظر في الفراغ كما ينظر العائد من الحرب إلى ظلال الجنود الذين لم يعودوا.

في هذه السلسلة، لن تجد صخب الأحداث،
بل خفقة قلب بين كوبٍ ومنفضة،
لمسة من ذاكرةٍ تخرج من تنّور قديم،
رسالة تُرسلها امرأة ما زالت تراه رغم المسافة،
وصوتٌ... صوتٌ يشبه الوطن حين يكون شخصًا واحدًا.

"يوميات رجل"
ليست اعترافات، بل خربشات صادقة،
كتبتها الوحدة بأصابع مغموسة في القهوة،
وغنّتها امرأة بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه سواه.

 

[الجوري]

هو لا يسير، بل يتسرّب، قطرةً قطرةً، من حنفيّة كونية معطّلة، يحاول أن يعيد تركيب العالم بفنجان قهوة وسيجارة وابتسامة نصف مشروخة


يوميات رجل – الحلقة 1

......فنجان... وصوت يُقال لي وحدي.......


همس بجانب أذني، ونقر على نافذة الغفوة.
"وقت النهوض"... لكن لم ننهض.
نفس الروتين، نفس الحياة. لا جديد، لا تحديث.
كأنني أعيش في دورة مغلقة، لا منفذ منها. أتحرك بمقدار ثابت لا يتغير:
سبعة عشر خطوة إلى المطبخ، ست خطوات إلى الحمّام، عشرون إلى منضدتي التي أحتسي عليها قهوتي.
لا أحد حولي. لا أستقبل أحدًا. لا أربي طيورًا.
الطيور تحتاج جهدًا لا أملكه... لا أرغب أن أمنحه.


فنجان قهوتي لم يتغيّر منذ زمن طويل.
نفس الفنجان، نفس الدلّة، نفس العلبة، نفس المنفضة.
أغمضتُ عيني. الفراش بارد. لم يزره طيفها الليلة الماضية.
همهمت: "أظنها متعبة..."


أمسكت بهاتفي.
رسالة تشع.
لا أحد يذكرني صباحًا سواها.
كلمتان: "صباح الخير".
ليست أسلوبًا. ليست من باب البروتوكولات. بل هي تعمّدت أن تكون أول من يلتصق ببشرتي.
بصمتها، كأنها بصمة قهوة.


سجّلتُ لها: "صباح الخير، كيفك؟"
لا أعلم ما المتعة في أن أسجّل صوتي لها صباحًا... بصوتي الأجش، كما لم أفعل لأحد من قبل.
ورغم ذلك، فعلت.


تململتُ من فراشي، ونهضت.
إلى المطبخ.
لا يمكنني أن أجمع نفسي دون قهوتي.
لا أستطيع التفكير، لا أستطيع مواجهة العالم قبل أن أستنشق أبخرتها.
كل أفكار الكون تتناثر حولي، شعري مشعث مثلها، كأن رأسي خريطة لتشويش لا يُقرأ.


أملأ الإبريق، أضغط عليه، وأتّكئ على حافة المجلى.
أخرج سيجارة من جيبي، أشعلها، وأنفث الدخان نحو الخارج.
بانتظار غليان الماء، رحلت بي ذاكرتي...


إلى تنّور أمي وخبزها صباحًا.
تلك اللمسة حين كانت توقظني قبْل إخوتي، وتهمس لي: "تعال، اتبعني. صنعت لك شيئًا لذيذًا..."
أتبعها، متخيّلًا ما أعددته لي، فتناولني رغيفًا ساخنًا، وضعت عليه البيض والقليل من الزعتر.
يا الله... كم كان الصباح لذيذًا حين يبدأ بهمسة أمي... وخبزها.


صوت صفير الماء يعيدني إلى الحاضر.
أُعد القهوة، أحملها مع فنجاني إلى الطاولة المعتادة.
أصبّ الفنجان وأتأمل سطحه.
لا أعلم لماذا تعجبني تلك الفقاعات الصغيرة.
أحيانًا أظنها تهمس لي. أحيانًا تبتسم. وأحيانًا تعاتب.


أنزل كل أفكاري الجامحة في دورق القهوة... علّها تهدأ، وتتركني أتناولها بسلام.


رسالة تومض.
كلمة واحدة: "حبيبي."
أمسك بالفنجان، وأرتشف منه بهدوء، وأهمس:


"ما الذي جعلها تقع بي هكذا؟ أيمكن أنني ظلمتها بهذا الحب البعيد؟ الحب غير المتاح؟"


أُهدهد قلبي بفكرةٍ لا جواب لها،
ثم تضيء الشاشة مجددًا:
رسالة مسجّلة، مدّتها دقيقة ونصف.
أعلم أنها غنّت لي فيها أغنية.


صوتها...
يسبق القهوة إلى دمي.
وأنا، رغم كل شيء، كنت أحتاج هذه الأغنية بالضبط.

 

[الجوري]

يوميات رجل – الحلقة 2

.......أغنية تُسكِت الصمت.......

صوتها...
يسبق القهوة إلى دمي.
وأنا، رغم كل شيء، كنت أحتاج هذه الأغنية بالضبط.

أضع الفنجان على طرف الطاولة، أنقر الشاشة، وأدني الهاتف من أذني.
يبدأ اللحن، ناعمًا، خجولًا، كأنه يعتذر عن الدخول في هذا الصباح المرتبك.

تغني بصوتٍ لا يشبه الأصوات التي أعرفها...
هو أقرب إلى الهمس، لكنه محمّل بشيء لا يُقال.
كل مقطع، كل نَفَس، يشبه نافذة تُفتَح ببطء، ثم تُغلَق دون سبب.

لا أتذكر الكلمات، لكنني أحفظ الشعور.
هل هذا ما تفعله الأغاني؟
هل تُحبّنا بطريقة لا نفهمها؟

صوتها يسرق شيئًا منّي، ثم يُعيده في شكل آخر.
شيء أنظف. ألين.
كأنني أسمع نفسي في زمنٍ آخر، وأنا أطلب هذا الحنان تحديدًا... ولم أحصل عليه.

في لحظة، شعرت أنني أود البكاء.
ليس حزنًا، بل لأنني تذكرت أن أحدًا ما ما زال يعرفني كفاية... ليغني لي.
وما أصعب أن يغني لك أحد وأنت لا تعرف إن كنت تستحق هذا القدر من الرفق.

أقف.
أتمشى في الغرفة.
أقيس المسافة بين صوتها وقلبي، أجدها قصيرة جدًا... ومؤلمة جدًا.
كل زاوية في البيت تحتفظ برائحة وحدتي،
لكن الآن، كأن الأغنية علّقت ضوءًا صغيرًا في السقف.

ينتهي التسجيل.

تظل الشاشة ساكنة، والبيت ساكن، وأنا كذلك.
لكني لم أعد الرجل ذاته قبل ثلاث دقائق.
ثلاث دقائق فقط، وأصبحت أكثر ليونة... أقل قسوة على نفسي.

أُمسك بالهاتف، أكتب لها دون تفكير:
"أعدتِ ترتيب العالم. ولو مؤقتًا."

ثم أطفئ الشاشة.
أرفع الفنجان مجددًا.
القهوة الآن أقل مرارة.
أو ربما أنا من تغيّرت.

أنظر من النافذة.
الشمس لم تدخل بعد.
لكنني، رغم كل شيء، أشعر أن الضوء سيأتي.
وأنني، في هذا اليوم، لست وحدي تمامًا.

 

[الجوري]

يوميات رجل
الحلقة 3
..........شجرة اللوز خلف البيت......

ما زال الفنجان على الطاولة، دافئًا قليلاً،
والرسالة الصوتية التي غنّت لي فيها قد انتهت منذ عشر دقائق.
لكنني لم أتحرّك بعد.
أجلس كمن يخشى أن يُفسد شيئًا نادرًا إذا تنفّس بصوت مرتفع.

منذ متى لم أغنِ لأحد؟
منذ متى لم أُحب أحدًا بصوتٍ واضح؟
أسئلة لا أبحث لها عن إجابة، فقط أتركها تتدلى من حواف روحي مثل شرشف مبلّل على حبل الغسيل... عبءٌ ناعم، لكنه عبء.

فجأة، وعلى غير توقيتٍ معروف، باغتتني صورة قديمة.
شجرة لوز خلف بيتنا الطيني.
كانت أمي تقول إن اللوز لا يُؤكل من الشجرة مباشرة، وإن أول زهوره دليل ربيعٍ خجول لا يلبث أن يختفي.
وأنا... كنتُ أنتظر تفتح الأزهار،
لا لأقطفها،
بل لأراقب بياضها كيف يشحب مع الوقت،
وأضع بعض ما يسقط منها تحت الوسادة،
كأنني أخزّن رائحة حنانٍ لا يُشترى.

تلك الشجرة... لا أعرف إن كانت ما تزال قائمة.
غالبًا ماتت.
أو نُسيت.
أو قطعوها كما تُقطع الأشياء التي لا تعود ضرورية في الحياة الحديثة.
لكني أراها الآن بوضوحٍ مؤلم:
جذعها الرقيق، غصونها المتشابكة، الزهر الذي كان يتساقط على أكتاف أختي الصغيرة حين تجلس لتقشر الرمان.

تذكّرت لمسة يدها على رأسي، تلك التي لم تتكرر، لم تُعاد، لم يُشبهها أي حب آخر،
لا حبّ امرأة، ولا حبّ صديق.
ربما لأن الحب الحقيقي لا يُقال،
فقط يُوضع على رأسك في صمت،
كشمسٍ صغيرة لا تحرق.

عدتُ من الذاكرة كما يعود المرء من جنازة: خفيف الرأس، مثقل القلب.
والقهوة؟
بردت تمامًا.

أمسكتُ الفنجان بيدي، لا لأشرب، بل كمن يضم شيئًا انقضى،
وهمست لنفسي:
"ما من أحدٍ يعود حقًا من شجرة اللوز."

ثم قمتُ لأغسل الكوب.
لكن الأغنية كانت ما تزال معلقة في سقف الغرفة،
تتردّد في الهواء كصدى صلاة لم تُنهَ بعد.

فجلستُ مرةً أخرى.

لا شيء مستعجل.
النهار لا ينتظرني، ولا يهمّه إن استلقيتُ على الأريكة أو حدّقتُ في السقف حتى المساء.
لكنني أشعر بشيءٍ ما تغيّر.
ليس في الخارج،
بل في داخلي،
حيث تنبت أحيانًا أشجار غير مرئية،
تُزهِر فقط حين نكون وحدنا.

 

[ندى الورد]

تعالو
@اسكادا
@فتنة العصر
@Nobody
@مجيد الجنابي

 

[مجيد الجنابي]

صديقتي العزيزه ..
الجوري ..
حتما متابع مع شخصك النبيل بقية
الحلقات كي اعطي رأي نهائي فيما
كتبت من حروف وان كنت اعتقد جازما
بأن ما تكتبيه هو رائع وجميل وممتع
ويسعد به كل من سيقرأه ..
الانثى خير من يدون يوميات الرجل بلا
تجميل او تزييف او تزويق فما بالك
والأنثى هنا هي ..
الجوري صاحبة الحرف المحمل عذوبه
ورقي وجمال ..
ننتظر بقية الحلقات بفارغ الصبر
تقبلي مني اعطر وارق تحاياي
تؤطرها لسموك الكريم بتلات النسرين

 

[هدوء]

ومااجمل لقاء الارواح حين تكون
على خطى كلمة وحرف .. ومحتوى

@الجوري انسانة الحرف وانسيابية
الكلمة ..
تهمسين للحرف همس فيخرج مدللا
يتباها بحزن .. وينضج عند اكتمال الفرح ..

يوميات اكثر من رائعة ..


وانت تعلم بأنني هنا .. دوما بجوار حرفك