نهاية تشبه البداية - الفصل الخامس


همسات أوفونبورغ
في صباح اليوم التالي، استيقظت مريم على هدوءٍ ثقيل. عبر النافذة، بدت أشجارُ أوفونبورغ مطمورةً في ضبابٍ فاتر، لا يبشّر سوى بأسئلةٍ لم تُجَـب بعد.
جلست مريم على حافة السرير، تنظر إلى قبضَة معطفها الرمادي، تحاول أن تهدّئ نبض قلبها المتسارع. كان موعدُ اللقاء مع خالد يوشك أن يطرق الباب،
لكنها لم تكن متأكدةٍ مما إذا كانت تنتظره أم تنتظر نهايةً لشيءٍ أكبر منها
كانت مريم تقف أمام المرآة، لا لتتزين، بل كأنها تتحقق من بقائها، من كونها ما زالت هناك. يداها تتحركان ببطء فوق وجهها، وكأنها تحاول ترميم ملامح امرأة لم تعد تعرف مَن تكون تمامًا.
قلبها لم يكن مطمئنًا، لكنه كان مصمّمًا. اللقاء الذي انتظرته طويلًا صار قاب قوسين أو أقرب. وخالد، ذلك الاسم الذي كان يومًا جُرحًا بطعم العسل، قد يعود اليوم إما بلسمًا… أو خيبة أخيرة..!
في الزاوية المقابلة، كانت سارة تجلس على طرف السرير، تحمل فرشاة الشعر في يدٍ، وهاتفها في الأخرى. لم تكن تعرف أن انعكاسها في المرآة، وهي ترتّب خصلاتها وتبتسم بخجلٍ صافٍ،
بدا في عين مريم وكأنه غموضٌ ناعم.
أرسل صورة لماما…
ستقول إنّي أصبحت كالأميرات!
قالتها سارة، ثم ضحكت كأنها لم تقصد إلا الطفولة.
لكن مريم، بعينها المُثقلة، رأت ما لا يُقال. لحظة البراءة تلك كانت تُخفي شيئًا آخر، ربما لم تعرفه سارة نفسها. أكانت تتزين من أجل صورة… أم من أجل إحساسٍ غامضٍ لم يُعترف به بعد؟
مريم اكتفت بالصمت، وأكملت ارتداء معطفها الرمادي، الذي بدا كدرعٍ هشّ، لا يقي من البرد بقدر ما يستر ما يتكسّر داخله.
في بهو الفندق، جلست وحدها. سارة اعتذرت بلطف وغادرت، قالت إنها متعبة وتحتاج لقسط من النوم.
تركتها بين ضوء مصابيح خافتة، وأحاديث مبعثرة في الخلفية، وصوت موسيقى تثير في مريم الرغبة في البقاء.
طلبت فنجانًا. لم تشربه.
عيناها تنظران إلى المدخل، وقلبها يحاول أن لا يُظهر ارتجافه.
وكأن شيئًا فيها يهمس:
“ليس بعد… لا تصدّقي بعد.”
دخل خالد بهدوءٍ كمن يخشى أن يكسر صمت المكان. ارتسمت ملامحه فوق مصابيح البهو الخافتة، ولكن عينَيْه، تلك التي كانت يومًا ملاذًا للياليها الطويلة، بدتا غارقتين في سرٍّ لا تريد الإفصاح عنه.
وقفت مريم في قبالته، تشعر بمزيجٍ من الدفء والبرود يتصارع في صدرها.
همست الكلمات الأولى، لكنها لم تخرج. تذكرت صمتها، فتقدمت بخطى وئيدة إلى حافة المقعد، كأنها تزرع قدميها في أرضٍ لا تثق فيها بعد.
جلس خالد أمامها، على بعد يديْن وربما ألف سؤال، لكنه اكتفى بنظرةٍ طويلة، وكأنه يحاول قراءة ما بين ملامحها البسيطة.
ثم قال، بلسانٍ يرتجف قليلًا رغم سعيه للسيطرة:
– “لم أتخيّل أن يكون لقاءنا هادئًا بهذا القدر… أم الخوف؟”
أجابته مريم بصوتٍ خافتٍ مملوءٍ بمرارة الانتظار:
– “الهجوع أمام الحقيقة أبلغ أحيانًا من الصخب.”
خانتها الكلمات في اللحظة الأخيرة، فظلت عشقاتها السابقة تتقافز بين كلمتيْ “الحب” و“الندم”، حتى غاب عنها الصدى.
رأى في وجهها ظلال تساؤلٍ عميق، فردّ:
– “أنا هنا… لأكون ما كنتُ عليه، أم لأجد نفسي في عينيكِ؟”
التقطت مريم تلك العبارة كجزءٍ من اختبارٍ لم تكن تعلم معاييره. بادرت بسؤالٍ يتقاطع فيه الفضول والريبة:
– “وماذا لو كنتُ أنا التي تغيّرت؟”
سكنت الكلمات لحظاتٍ، قبل أن ينحني خالد قليلًا، يقترب من سرٍّ تودّ أن تنكره:
– “لستُ أدري… لكني أطلب بضع دقائقٍ أخرى، لأرى إن كان بيننا ما يستحق الاستمرار.”
ارتجف جسمها، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٍ صغيرة لا تكاد تُرى.
ثم هنا: صمتٌ ثقيلٌ، يُؤنسه فقط خفقان قلبيهما.
كان اللقاء قد بدأ فعلاً…
ولكن هل كان سببًا لولادةٍ جديدة، أم لاستئناف صدى خيباتٍ قديمة؟
الأجوبة…
ستظل معلقة بين طيات هذا الصمت،
تنتظر أن تُكشف في الفصل السادس
..
اعضاء الغابة العربية شاهدوا ايضا
اسم الموضوع : نهاية تشبه البداية - الفصل الخامس
|
المصدر : قصص من ابداع الاعضاء
بالفعل، الحيرة التي تشعر بها مريم ليست مجرد مزيج من المشاعر المتناقضة، بل هي أيضًا انعكاس لصراع داخلي بين ما تراه وما لا تستطيع تسميته.
قد تكون سارة تحمل سرًا عميقًا، لكن ما يجعل مريم تشتبه هو أنها بدأت تشعر بأن كل شيء من حولها ليس كما يبدو.
أما بالنسبة للإحساس الغامض، فهو ربما ذلك الخيط الرفيع بين ما يعيشه القلب وما يُدركه العقل، بين لحظات الفوضى والأمل. قد يكون مجرد وهم، وقد يكون حقيقة لم تُقال بعد. الفصل السادس قد يحمل إجابة، لكن حتى الآن، كل شيء ما يزال معلقًا بين الأسئلة.