الفصل الثالث
حین وصلنا إلی المنزل ، نزلت من السیارة ، فنزلت أنت أیضا معي ،قبلت جبیني ، ثم قلت لي بصوت هامس
_إعتني بنفسك حبیبتی ،وكوني متأكدة أنك ستظلین الأمیرة المتِوجة علی عرشِ حبي مهما حصل .
إكتفیت برسم إبتسامة صغیرة على شفتي، لا أعلم ما كنت أقصد منها بالضبط، فأي جواب يستحقه كلامك الذي يستفز عواطفي و عقلي فيجعلهما في صراع لا ينتهي؟!
تركتك و دخلت إلی حدیقة القصر لم أتوجه إلی المنزل بل قررت الذهاب إلی المرسم ، فأنا لا أستطیع أن لا أشارك فرشاتي الأن في مشاعري، لمحتني من قضبان القصر، و قد كنت لاتزال واقفا هناك فناديتني بصوت منخفض كي لا يصل لمن في البيت
_زينب ،إلی أین أنتِ ذاهبة؟
إستدرت إليك مجيبتا إياك بنفس همسك
_إلی المرسم ، لماذا تسأل؟
دفعت بوابة الحدیقة ثم دخلت قائلا
_سأذهب معك
رفعت حاجبي بصدمة قائلة
_معي أنا ،هل جننت ؟!
إبتسمت بمشاغبة قائلا
_لحد اِلأن لم ترین شيئا من جنوني یا قطتي ،هل أستطیع أن أدخل؟
رددت عليك بجفاء قائلة
_بالطبع لا!
_إذن لم تتركي لي خيارا رفعت صوتك و أنت تنادي أمي
_خالة نرمين ! يا خالة نرمين!
أغلقت فمك بيدي بسرعة، و أنا أتلفت يمينا و يسرا خشْيت أن يكون أحد قد سمعك. همست جزتا على أسناني
_ما الذي حدث لك أخفض صوتك ستفضحنا.!
أبعدت يدي عن فمك بعدما طبعت قبلة خفيفة على باطنها. جعلت قلبي يثور في مكانه و كأنك قد داعبته هو بشفتيك. قلت بإبتسامة و أنت تنظر إلي
_هذا فقط مثال بسيط لما أستطيع أن أفعل. هل أدخل الأن؟
تنهدت بقلة حيلة، و أنا أفتح لك الباب قائلة
_تفضل
سبقتني أنت إلى المرسم ظللت تتجول بين اللوحات وتتفحصها ، حتی وصلتَ إلی اللوحة التي طلبتها زوجتك في المعرض ،فإلتفتت إلي قائلا
_أه ! لوحتي لاتزال عندك علي أن أخذها قبل ذهابي.
أجبتك بجمود و قلبي يحترق من لامبالاتك، فكيف بحق الله تتعامل بهذه البساطة و كأن شيئا لم يحدث؟! كيف؟! أسرقت كل برود أهل الأرض و إستأثرت به لنفسك؟!
أجابتك بغضب بدا طفوليا أمام تأثري بك
_لم تعد لوحتِك إنها لي.
إبتسمت لي و أنت تداعب وجنتي كما فعلت مع رندة في وقت من هذا اليوم
_أه حبيبتي ألا تعلمین أِن الهدایا لا ترد ، ثم أنني تركتها أمانة عندك ، والوفاء بالأمانة واجب.
أبعدت وجهي عنك و أنا أقول بغيظ
_تخليت عنها فلا تأتي لتطلبها مني الأن، هي لم تعد لك أبدا. لا تحلم أن....
قطعتنی قائلا
_لا دعي لإتعاب نفسك بالإعتراض حبيبتي ، سأخذها رغما عنك ، فهي لي و أنا لا أتخلى أبداً عن ما هو ملكي.
إبتعدت عنك و أنا أتمتم بنفاد صبر
_صبرك یِا الله! ما الذي أصابك اللیلة؟! ألن تحل عني؟! هل طاب لك الأن إستفزازي!
_كفاك كلاما ، وإشرعي في رسم لوحتك الجدیدة.
قلتها لي و أنت تجلسني فوق الأريكة التي أرسم عليها و تضع أمامي لوحة بيضاء فارغة، حشرت بعدها الفرشاة حشرا في يدي.
ثم جلست على ركبتيك قرب أريكتي تستند بذراعك على يديها، تنتظرني أن أبدأ الرسم،دون أن تنبس بكلمة
إستغرقت فقط ثواني من التردد، ثم شرعت في الرسم الذي ما إن أبدأه حتى يجذبني هو إليه، بسحر لم أعرف مثله إلا معك.
لم تتوقف عن إبداء ملاحضاتك المهمة وغیر المهمة وتساٶولاتك التي لا تنتهي، و أنت تدقق في كل خط يرسمه يدي ، أحسست أنني قد عدت ثمان سنوات للِوراء حیث لا یوجد إلا أنا وأنت وحبنا ، لاشر لا غدر ولا شمس.
من كان بجانبي لحظتها ليس الرجل الذي خان العهد و كسر قلبي، بل جاسر حبيبي الغالي، الشاب المرح الحيوي، المحب لمباهج الحياة، جاسر صاحب القلب الكبير الذي أغرقني حبا و حنانا في ما مضى.
كان من المقرر أن أذهب اليوم لزيارة أبي و أخي في المقابر ،لكنني لم أفعل. فلم أشعر أبدا بالوقت معك ، دائما ما ينسف وجودك كل شيء في حياتي، يبعثر كل أوراقي و يمحوا كل قرارتي.
غریبٰة هذه القوة التي تجعلك تدمر كل مخططاتي فلا تترك سوی إسمك موجودا في قائمة الأولویات.
لو كان للسعادة لون لكان لون عینیك ، لو كان لها ملامح لكانت ملامح وجهك ،فیا سعادتي جودي علي بحبيبي .
لم أشعر بالوقت إلا حین إستيقظت من نومي علی الأريكة الضيقة، لم أعلم متی وكیف نمت، أنا التي عادة نومها صعب جدا، أعاني دوما فيه من الأرق الليلي، كيف لي أن أغفو كطفل صغير فوق أريكة في إنتظار عودت أبيه ليلا، فيسبق النوم قدوم أبيه، و أنا قد سبق النوم قدوم أشواقي.
حین إلتفت إِلی الوراء وجدتك أنت أیضا نائما علی الأرّیكة الوثيرة التي كنت أستعملها وقت راحتي ، إقتربت منك و جلست أمامك أتفحص ملامحك الحبیبة على قلبي، ربما ستكون أخر مرة أراك فیها قریبا مني، فلن أسمح أبدا بتكرار هذا الخطأ مرة أخرى، لن أضعف أمامك من جديد، أنت رجل متزوج و أنا أبدا لن أهدم أسرة بيدي مهما كان السبب ، كنت أرید أن أحفظ ملامح وجهك إنشا إنشا ، رغم أنني لاأحتاج ذلك من الأصل، فصورتك قد طبعت في قلبي منذ أول یوم رأيتك فیه.
_لم أكن أعلم أنني وسيم لهذه الدرجة حتى تشردي في كل هذا الوقت.
قلتها بإبتسامة جميلة، و صوت خالطته بحة النوم، بينما زرقة عينيك كانت تلمع بصفاء و حب.
كم لزمني من القوة لأغطي على ضعفي بك، كم لزمني من التجلد و الصبر كي لا ألقي بكل وعودي التي قطعتها على نفسي قبل قليل، و أرتمي في حضنك يا معذبي ضاربة بكل شيء عرض الحائط.
لكن لم أكن لأفعل ذلك، فحبيبتك يا قلبي مقاتلة جاسورة لا تهزم هكذا بسهولة.
أجبتك بوجه عبوس و صوت حاولت ما أمكانني أن أجلعه ساخرا مشمئزا
_یبدو أنك واثق من نفسك أكثر من اللزوم أیها الزقاقي!
نظرت إلي بإستغراب، و أنت تستقيم في جلستك مرددا بعدم فهم
_زینب ما بك حبيبتي ؟! مالذي دهاك ؟
إبتعدت عنك وحملت معطفك و رمیته علیك قائلة بغل
_إنتهت اللعبة أیها المحترم ، هل صدقت أنني لا أزال أحبك فعلا! أصدقت ذلك! كیف لي أن أحب شخصا عدیم الشرف والأخلاق مثلك!
بصوت غاضب ، صرخت في وجهي
_زینب!
لم أبدي أي تأثر بصوتك المرعب الذي كان قادرا على جعل أي انثى سواي ترتجف خوفا، بل زدت من حدة كلماتي و أنا أصرخ بك
_دعني أكمل أم إنك تخاف معرفة حقیقتك!، مجرد حیوان متسلق یسعی للعیش في رفاهیة! تحوم حول فتیات الطبقة الغنیة و...
زجرتني بصوت يشبه قصف الرعد
_یكفی أصمتِ !
لم أبالي بغضبك الذي أدرك جيدا خطورته حتى في الماضي، كنت أعلم أنني ألعب بالنار خصوصا لمسي وترا حساسا جدا لديك، فأنا بكلامي أجرح بشدة رجولتك و كرامتك الحبيبة. تابعت دون أن يرف لي جفن و أنا لا أعلم من أين أتتني كل هذه القوة و الجرأة
_لا لن أِصمت. أتظن أنني لا أعلم أنك الأن تعیش علی أموال زوجتك یا عدیم الكرامة! أأوهمتها بالحب كما فعلت معي؟! أوجدت رصيدها البنكي أكثر إمتلاءا من رصيدي! أم أنك تريد جمعنا معا فطمعك لا ينضب أبدا!
رفعت یدك لتصفعني وعینیك تحولت للون الأحمر الدموي لم أبتعد عن مرمى يدك بل ظللت ثابتة في مكاني، و أنا أقول لك
_هيا إفعلها! ماذا تنتظر! إضربني أظهر وجهك الحقيقي الأن! إخلع عنك قناعك الحضري و إكشف رجعيتك و تخلفك!
أنزلت يديك و كورت قبضتك لتكسر الطاولة الزجاجیة بها.
لم تهتم بیدك التي تنزف دما، بل بدوت كأنك لم تشعر بها من الأساس، خرجت صافعا الباب وراءك بعدما حملت معطفك .
بمجرد إختفاء أثرك سقطت علی الأریكة التي نمت أنت عليها الليلة أبكي بمرارة ولا أردد شيئا غیر "سامحني یا حبيبي " أعلم أنني جرحتك كثیرا لكن ما بالید حیلة، كان لا بِد من أن أبعدك عني فأنت شخص متزوج ، وأنا لست مِن مَنِ یبنون سعادتهم علی حساب تعاسة الأخرین.
لا أدري كم مر من الوقت و أنا منهارة تماما فوق الأريكة التي ضمت جسدك و لاتزال تضم رائحتك الحبيبة حتى الأن، أكتوي بلا رحمة بين نارين، نار حبي لك و نار خيانتك لي، دائما ما تخرجني عن طوعي فتجعلني أرتكب أشياء يرفضها عقلي و منطقي ،فهأنا الأن قد كسرت قلبك وكسرت قلبي معك ،أعلم أن كلامي كان جارحا جدا لكنه ما كان لیصلِ أبدا للجرح الذي سسبته لي أنت. فكيف لحد الأن لاأزال أفكر بمشاعرك و أهتم بها؟ كيف؟!
نهظت من مكاني بخطواتِ متثاقلة و دخلت إلی القصر.
صعدت سریعا إلی غرفتي قبل أن تلمحني أمي، فلقد إقترب وقت إستيقاظها ، لا أریدها أن تراني في هذه الحالة یكفیها جرحها وألمها ، لا أستطیع أن أزیدها همي أیضا، لقد شغلت بالها كثيرا وقت مرضي و أنا لا أكره عندي من أن أكون عبأ على من أحب.
دخلت لأخذ حمام ساخن أریح به أِعصابي، كعادتي كلما تأزمت نفسیتي.
أه یا جاسر! اه یا حبیبي! لو تعلم كيف یعذبني بعدك ، و یقتلني حزنك ، فعفوا إعفوا عني یا حبيبي.
خرجت من الحمام بعد مدة، و قد أحسست بالقليل من الإسترخاء ، جففت شعري ورفعته إلی الأعلی ، وإرتدیت طقما رسمیا للعمل.
بإتقان زینت وجهي بمساحیق التجمیل و رسمت عليه ملامح الفتاة القوية التي لا تقهر ، لأدفن ملامح حزني تحت ألوان زاهیة و قویة.
حین نزلت من غرفتي وجدت أمي تنتظرني في غرفة المعيشة ، من نظرتها المتسائلة و المهزوزة علمت ما ترید ، فإبتسمت لها ثم قلت رافعة كتفي
_للأسف لم أذهب
نظرت إلی بتساؤل فتابعت
_لقد تأخرت في المیتم ، فلم أجد الوقت للذهاب.
نظرت إلي بشك، عاقدة حاجبيها بتساؤل فهي تعلم جیدا أنني لا أخلف مواعیدي مهما كان الأمر ، أرأیت ما فعلته بي یامعذبي ، جعلتني غریبة عن نفسي و عن كل من یعِرفني. حدثتها بلهجة حاولت أن أجعلها تحمل نوعا من المرح الذي لا تعرف له روحي سبيلا
_رندة كانت محتاجة لي جدا لهذا تأخرت معها، لم أشأ أن أتركها. و عندما وصلت خطفتني موجة إلهامية لأقضي الليلة في المرسم أمام اللوحات.
أومأت برأسها متفهمة و هي تبتسم لي بحنان. نهضت من مكاني وقبلتها قائلة
_حسنا حبیبتي سأتركك الأن علي الذهاب للعمل كي لا أتأخر
حملت حقیبتي وخرجت من القصر ، إستقلت سیارتي ، لتحتضنني رائحة عطرك التي كانت لا تزال عالقة في المكان، كانت دافئة جدا كحضنك الحبيب ، كانت قوية جدا تغلغلت في أوصالي إستنشقتها بإنتشاء فعادت إلي الروح من جدید، ألم أقل لك أنني لا أتنفس سِوی عشقك؟! لقد كنت الهواء الذي أستنشقه، فكيف لك أن تحرمني من مصدر حياتي؟!
أدرت محرك السیارة وتوجهت للشركة.
لدینا إجتمِاع الیوم ، ستكون أنت حاضرا فیِه لا أعلم میف سأواجهك بعد أحداث البارحة و اليوم، لا أدري كيف لي أن أنظر لوجهك و قد كانت مواجهتنا قاسية جدا. صبرك یا الله أعني علی عذابي.
مالي یا حبيبي لم أعد كیفما كنت، مالي ضعت في بحر هواك ، فلم یعد لي وسطه سواك ، عشت في عشقك متيمة، فلم أعد بعدها أمیز بین نفسي ونفسك.
مر الوقت سریعا في العمل إلی أن وصل وقت الإجتماع ، الذي ستأتي أنت إلیه ، وهأنا الأن أنتظرك بكامل الشوق، لم أعد أدري ما أريده حقا، بعدك يقتلني و قربك يحرقني، أتقطع شوقا إليك و يتراقص قلبي لهفة لقربك،و ترتعش روحي خوفا من الأت. كم كنت أخشى أن أضعف مجددا ما إن أراك، إلا أنني أعود و أمني نفسي بقوة وهمية أمتلكها، أولست صاحبة القلب الجليدي التي لا یؤثِر فیها شيء كما یقلون؟!
إتهموني بالقوة،و لو كشف الستار يوما عن ما بداخلي لصدموا من هول الخراب الملم بروحي. لم یفكرو یوما أن هذه القوة التي يرونها لیست إلا قناعا أدراي به ما بدخلي .
أتت إلي مساعدتي لتخِبرني بمجيئكم أو هذا ما ظننت!
دخلت للإجتماع بشموخ و كبرياء، عيني متلهفة لرؤيتك رغم إدعائي الامبالات، شوقي يهرب مني إليك و لا يعرف سجنا أو ترويضا.
لكن أملي خاب فلم تكن أنت هناك، أتعلم من عوض غیابك يا حبيبي؟إنها هي زوجتك المصون.
لا أستطيع أن أفهم ما تفكر به أو تقصده من أفعالك يا جاسر، هل تتعمد إغاظتي بإرسال زوجتك الحبیبة إليٌ؟ أهكذا قررت الإنتقام مني؟!
إقتربت منها ومددت یدي لأصافحهِا قائلة
_سیدة شمس مرحبا بك عندنا ، نورتي الشركة.
شيء ما كان غريبا فيها، وجهها المشرق عادة، كان يبدو أقل نضارة و قد كساه بعض الشحوب.
إبتسمت لي قائلة بود
_الشركة منورة بوجودك أنسة زینب.
إبتسمت لها بمجاملة قائلة
_تفضلي، إجلسي
جلست في نفس اِلمكان الذي كنت تجلس فیه ، هل هذه مصادفة؟ ألهذه الدرجة یجمعكم القدر؟
كنت شاردة طوال الإجتماع ، بالي كله معك ، لماذا لم تأتي یا حبیبي؟ لماذا؟ أقررت أن تعاقبني بغيابك الأن؟! أعلم أنني قد بالغت في ردة فعلي، ما كان علي جرحك بهذه الطريقة، لكن أنت السبب. أنت من جعلت قلبي صلبا لا یعرفِ الرحمة ، فلا تلمني الأن يا معذبي.
إنتهی الإجتماع وإنصرف الجمیع ، لدن زوجتك ظلت في المكتب ولم تخرج ، كانت تبدوا متوترة جدا، تتلاعب بأصابعها الرقيقة، و تدير خاتم الزواج الموضوع في إصبعها، فيعتصر قلبي مع كل إستدارة له، أحسست أنها ترید أن تقول شيئا من لغة جسدها التي تفيض قلقا و ترددا، إقتربت منها سائلة إياها
_سیدة شمس ، هل أنت بخير؟! أأستطيع مساعدتك في شيء ؟
أجابتني بتلعثم
_فی..الحِقیقة أأأأ....
صمتت مجددا و كأنها عجزت عن المتابعة، لتخظ رأسها أرضا و هي تعض على شفتيها بتوتر. حاولت أن أحدثها بلهجة متفهمة ما أمكن و أنا أسألها
_مابكِ ؟ هل أنت بخیر سیدة شمس ؟ تستطيعين أن تخبريني بما تريدين.
رفعت وجهها إلي و هي تقول بتلعثم
_أنسة زینب ، أأ لا أعلم ماذا سأقول ،لكن أرید التحدث معك بشأن جاسر.
سقط قلبي رعبا من مكاني، هل علمت بما كان بيننا و أتت الأن لتتهمني بمحاولة سرقتك لها؟! و ما عذري في ذلك؟ كيف لي أن أدافع عن نفسي من هذه التهمة التي إلتصقت بي و لست قادرة حتى على إقناع نفسي ببراءتي، ما أنا الأن إلا خائنة، تحوم حول زوج إمراة أخرى، إنتقلت عدوى التوثر إلي لأسألها بتلعثم غريب تماما عني
_جج ..جاسر ، مابه؟
مجددا عضت على شفتيها بتوتر و هي لاتزال تتلاعب بذلك الخاتم اللعين، كما تتلاعب بأعصابي و قلبي. تحدث بصوت منخفض كساه الحرج
_في الحقیقة جاسر لم یعد البارحة إلی البیت بعد أن ذهب معك إلى الميتم ، وعندما أتی متأخرا هذا الصباح كان ثملا ، ویده تنزف دما ، لقد كسر كل شيء في البیت ، وكان....
توقفت مجددا عن الحديث لأحثها.
_كان ماذ؟ لما توقفت؟ تابعي.
أخفضت رأسها و هي تقول
_في الحقیقة أأأ كان یِصرخ بإسمك.
_بإسِمی أنا؟
_أجل لهذِا جئت لأسألك.
_هل أستنبط من كلامك سيدة شمس نوعا من الإتهام؟!
رفعت رأسها إلي بصدمة و هي تقول
_يا إلهي أنسة زينب! ماذا فهمتي؟! صدقيني أنا لم أقصد ذلك أبدا، أعلم أنك إنسانة ملتزمة، فقط أنا جئت لأسألك إن حدث بينكما مشكل ما.
رفعت كتفي قائلة
_أسفة سیدة شمس،لا یمكنني مساعدتك ، لم أری جاسر منذ خرجنا من الخیریة.
أخفضت رأسها و هي تحمل محفظتها قائلة
_حسنا ، أنا أسفة علی الإزعاج.
و قبل خروجها توجهت إلي لتمسك بيدي قائلة.
_أسفة جدا أنسة زينب، أتمنى أن لا تفهمني غلط، فقط انا قلقة جدا على جاسر لهذا تصرفت بتهور. أرجوك إن علمت عنه أي شيء خبريني.
قَالتها ثم خرجت من الممتب. ما إن اغلقت الباب وراءها حتى إرتميت جالستا بتعب علی أقرب كرسي كان أمامي ، أفكر في الأحداث الأخیرة وأحاول فهمها ، كنت قلقة جدا عليك، كما كنت قلقة من إحساس زوجتك بأي شيء أكره من أعماق قلبي هذا الدور الشرير الذي رميت فيه، تتقاذفني رياح الأفكار شرقا و غربا، فيغلب قهري و ألمي على كل شيء، ما هذه اللعنة التي أصبت بها؟ ففقدت بعدها كينونتي، فقدت فيها نفسي قبل كل شيء؟! ما يقهرني هو خيط الأمل الرقيق هذا الذي علقتني به على حافية الهاوية، فما تركتني أقضي نحبي على صخور الواقع الحادة، و ما أعطيتني جناحين لأحلق بهما في سماء الحب.
تركت قاعة الإجتماعات لأتوجه إلى مكتبي،
حملت حقیبتي ثم خرجت بسرعة منه، مررت بمساعدتي لأحدثها دون أن أتوقف
_مریم إلغي جمِیع الإجتماعات التي لدي اليوم!
لم أنتظر جوِابها ،نزلت السلالم بسرعة متوجهة إلی سيارتي ، ظللت أتجول في الطرقات دون هدا ، أمشي ولا أعرف إلی أین ،تعبت، تعبت كثیرا يا قاتلي ، فكیف عساني أصبر علی عذابي؟ِِ قل لي أرجوك كيف سأتحمل بعدك؟كیف للمرء أن یعیش دون هواء ؟كيف للزهور أن تكبر بلا ماء ؟ و كيف لي أن أستمر دون هواك؟!
حین أوقفت سيارتي علمت أین أنا ، یبدو أن كلي إتفق علی هواك ، حتی رجلي في الأخیر قادتني إلی طیفك.
لقد كان هذا هو المطعم الذي شهد أخر لقاء لنا قبل ذهابك إلی الغربة هنا تعاهدنا أن لا نفترق مهما كانت الظروف ، تعاهدنا أن المسافات لن تلغي شيئا من حبنا، و أن الفراق لن يكون إلا ماء يروي بذرة عشقنا، أمطرتني وعودا و أمالا، أوهمتني حبا سرمديا زينته بأحلى كلمات العشق و أشعار الغزل.
لكنك خنت العهد یا قاتلي فلا تطلب مني الغفران الأن .
توجهت إلی نفس المقعد الذي كنا جالسین علیه حین ذلك ، كنتَ قد حفرت على الطاولة الحروف الأولی من إسمینا إلی جانب علامة ملانهایة ،كم الحب خداع يا حبيبي يجعلنا نثق في خرافات كاذبة لا أساس لها من الصحة، ففي عالم الفناء ما كان هناك مكان للأبدية أبدا، ظللت أتحسسِها بإصبعي في شرود و إبتسامة حزينة قد إرتسمت على شفتي.
_نحن لا نعود إلی نسمات الماضي إلا حینِ نحّن إلیه .
كان هذا صوتك الذي أخرجني من شرودي ، لم أكن أتوقع أبدا أن ألتقیك هنا، و بهذه اللحظة بالذات ، لكنني حاولت ما أمكنني أن أبدو طبیعیة ، إبتسمت لك بجمود ثم قلت
_لیس بالضرورة أن نحب الماضي لنعود إلیه ، الماضي دروس علینا مراجعتها جمیعها للنجاح في مدرسة الحیاة.
جلست أمامي على الطاولة نفس جلستك قبل ثمان سنوات، لتقول لي بهدوء
_أتظنین أنك ستخدعینني بكلامِك.! مهما نسجتي في الكلمات لتقنعيني بأكاذیبك لن تفلحیِِ فأنتِ تتكلمین وعینیك یأكدان عكس ما تقولین.
حملت حقیبتي ونهضت مغادرة المكان، وصلني صوتك و أنت تقول
_حتی لو هربتي الأن یا زینب ، فإنك لن تستطعي أن تهربي من الحقیقة أبدا.
لا أنكر أن كلامك كله كان صحیحا ، لكن المشكلة لیست في التصدِیق يا جاسر بل في التطبیق، دائما ما تضغط علی جرحي یا معذبي دون أن تهتم بمشاعري ، تعلم جیدا حجم الألم الذي تسببه لي لأنك لا تكثرت به، فأي نوع من الرجال أنت ؟
توجهت إلی محل لبیع الزهور لأشتري باقة مِن أجل قبر أبي و أخي و أخری من أجل أمي،أتعلم درجة عشقي للورود ؟ لا تستطيع أن تتصور أبدا كم أهواهم ، حنین أیضا تحب الزهور أذكر أننا في أحد الأیام حین صرح كلانا بحبه للزهور ، إتفقنا أن نتبادل باقتها في ظل غیاب من یحضرها لنا .
أتعلم أن حنین وأِخي زیاد كانت تربطهما علاقة حب قوية جدا ؟! كان ملاهما یحب الأخر بجنون، لكن الحیاة الظالمة كتبت لهما فراقا أبديا.
حبيبي زياد، كان أخا رائعا جدا طيبا و حنونا مثل أبي تماما، لقد كان عاشقا رائعا متيما بصديقتي الغالية، شاعرا رقيق الحس مرهف المشاعر، كنت أحب علاقته مع حنين كثيرا، فقد كان لها دوما أبا و حبيبا و أخا، حنين التي فقدت عائلتها في سن مبكرة، فأشعلت حمائية أخي عليها، كما أشعلت قلبه حبا بها رغم أن حنین كتومة جدا إلا أنني أعرف جیدا أنها تتعذب كثیرا بسبب فقدان حبیبها ، منذ وفاته رفضت الإرتباط بأي واحد كان، رغم العروض المغریة التي كانت تأتیها، و زاد إنطواؤها على نفسها فقطعت أي علاقات أجتماعية غير علاقتها بي.
أخي زیاد حبيبي ، هو الفرد الوحید تقريبا من عائلتي الذي كان یعلم كل شيء عن علاقتنا ، وكان یساندنا دوما ، لقد كان دوما لي صديقا حميما و بئر لأسراري، كان سندي و قوتي و أغلى ما أملك، كنت مدللته دوما، يعاملني برقة شديدة كزجاجة قابلة للكسر، كان یأمل أن یكون زفافنا في یوم وِاحد مع زفاِفه من حنین ،لكن القدر سرقهِ قبل أن یحققِ حلمه ، وأبعدك أنت عني. فكيف لي بالصبر على كل هذه المآسي، كيف لقلبي أن يتحمل كل هذا الفراق؟!
وصلت إلی المقبرة وتوجهت إلی قبر أبي و أخي المتجاورين ، جلست علی حافة القبر أمرر یدِی علی تربتهما ، كان قبریهما متلاصقان ببعضهم البعض، كما كان دوما في حياتهما، فأبي و أخي كان صديقين قبل أن يكونا أبا و إبنه.
لعنة قد أصابت عائلتي فشطرتها نصفين، نصف توارى تحت التراب و نصف أخر توارى تحت مآسي الحياة الظالمة.
بعد أن تلوت بعد الدعوات و آیات من الذِكر الحٓكيم ، بدأت بالتحدث إلیهما ، لا أعلم هل بمقدور المیت أن یسمعنا لكن ما بالید حیلة لم أجد من یسمعني من الأحیاء فتوجهت إلی الأموات
_أبي ، زیاد إشتقت لكما كثیرا أتعلمان الحیاة فارغةبدونكما؟!
أمي حالتها تسوء یوما بعد یوم ، منذ تركتمانا ، أما أنا فقد إنقضت كل ذرِة صبر كانت لدي ، إنني أحترق. أحترق یا أبي من الحزن و الأسی ضاقت بي الدنیا علی وسعها ، فیا لیتني أتي إلیكما.
لماذا تركتمانا ؟ لماذا؟ لماذا كلِ الأشخاص الذین أحبِهم یذهبون ويتروكننی وحدي؟ِ أهي لعنة سلطت علي؟! أهو ذنب إرتكبته و لا زلت ادفع ثمنه القاسي من نزيف روحي؟!
إلی هنا لم أستطع الصبر أكثر ، فإنفجرت باكیة علی قبريهما ، لأحس بیدك تربث علی ظهري
_إستعیذی بالله من الشیطان الرجیم ، أنت الأن تعذبنهما كوني أقوی من هذا حبيبتي
لم أكن في حالة تسمح لي أن أفكر في أية ردة فعل أستقبلك بها، فالألم كان أقوى من أي إعتبارات أخرى، حاجتي لمن يساندني كانت أكبر من كل قوتي إرتمیت في أحضانك ، وأكملت نوبة بكائي ظللت تمسد علی شعري برقة وأنت تهمس لي بكلمات مواسية، لم أكن لأستوعب معناها، لكن فقط لهجتها الحانية أراحت قلبي المتوقد ، لا أعلم لما مهما بنيت من حصون و قلاع على نفسي، مهما إرتديت من قناع لأداري به خوالجي، أراك تتسلل كالسحر من بين كل الحواجز، فأظل أمامك عارية الروح تماما، أسقط بين يديك ككتاب مفتوح، تقرأه أنت بعينين مغمضتين..
حینما إستعدت هدوئي إبتعدت عنك دون أن أملك الشجاعة للنظر إلى عینيك ، وبصوت منخفض همست
_شكرا لك
أجبتني بنفس هدوئي
_لا دعي للشكر لم أفعل شيئا.
نهضت من على حافة القبر و حملت حقیبتي لأذهب، همست لك بتعب
_وداعا.
_إلی اللقاء
قلتها وكأنك ترفض كلمة الوداع هذه وتقر علی أن هناك لقاء أخر .لا أعلم هل ما جمعنا الیوم كان صدفة ، أم انها رسائل من القدر، أوا كلما قررت الإبتعاد أجد نفسي أقترب منك أكثر؟!
إستقلت سیارتي، ظللت جالسة فيها لمدة و أنا أستند برأسي على ظهر الكرسي، رائحة عطرك كانت لاتزال تغمر المكان، أو ربما كانت تغمرني أنا بعد عناقنا، أو لعلها كانت من نسج أوهامي. جمرة ملتهبة تحرق روحي و حبي و حنيني إليك يقتلانني، و ذكرى زوجتك عندما حدثتني في المكتب تمزق أوصالي.
ليت حبك أو عزة نفسي كان أحدهما أقل من الأخر، ربما حينها كنت لأكمل طريقي و أتخذ القرار، فأنا الأن وسطهما ممزقة تماما، روحي ساحة حرب لهما، كل مرة أسقط فيها ضحية فأموت بدل المرة ألفا؟!
أي مكانة إخترتها لي في حياتك يا حبيبي و أنت رجل متزوج؟! أعشيقة أم زوجة ثانية؟!
اصارحك القول في كل منهما إمتهان لكرامتي و تمزيق لقلبي العاشق. ربما، ربما لو كنت اقل عزة نفس و اقل كرامة من ذلك لوافقت على أي شيء من أجل قربك، لكن هاته أبدا ليست أنا. و ما كانت لتكون أنا.
حركت سيارتي بعد أن أرهقني التفكير العقيم الذي لا يزيد إلا من حيرتي و ألامي لأتوجه إلی المنزل علني أجد في طياته التي حملت لي قديما كل الدفئ، رمادا من الماضي يطفئ القليل من صقيع روحي الباردة.
حين وصلت وجدت أمي جالسة في الحدیقة، كالعادة لا يفرقها الشرود أبدا و هي تنظر إلى الارجاء بعينان لا تريان ما أمامهما بل تطلان على عالم أخر. عالم من أطلال الماضي، لم تظل فيه إلا أطياف مشوهة لسعادة ميتة.
لم تفطن لوصولي، و قد كانت مغيبة تماما عن العالم. حالة أمي يا جاسر تقلقني كل يوم أكثر، بعد مرور ما يقارب الست سنوات لم يتغير شيء من حالتها، بل هي تزيد إنطواءا يوما بعد يوم تذبل كل لحظة و تتساقط أورقها واحدة تلو الأخرى، حتى ما ظلت إلا جسدا بلا روح. إنحنيت إليها و قبلت شعرها الذهبي، رفعت رأسها إلي، لتبتسم لي بحنان ما إن رأتني مسدت على وجنتي برقة، أعشقها منها.
رفاث إمرأة كانت يوما متوهجة نشاطا و حبا و حيوية، لا يزال يحمل رغم المصائب، قلبا ينبض بالحنان و الحب.
أمي ستظل دوما أغلى ما أملك، حتى و انا افتقدها الأن و هي موجودة بعد ان سرقها مني الحزن،
أهدیتها باقة الزهور البیضاء التي إشتریتها من أجلها.
فأشرق وجهها بإبتسامة رائعة رغم الحزن العاصف الذي يستوطن عينيها، ربما و هي تنظر إلى هذا الورد، كانت تتذكر الورد الذي إعتاد أبي أن يجلبه لها في الماضي مع إختلاف الألوان، فقد كان أبي يجلب وردا من اللون البنفسجيّ الفاتح يمل قليلا إلى الأزرق السموي.
لكل حب لون، لكن ليس لكل لون دلالة، فدلالته تتغير بين حب و أخر، فالأحمر قد يكون لون العشق و قد يكون لون نزيف دموي، حب أمي و أبي كان أزرقا سمويا قد باركته السماء، كان في صفاء يوم ربيعي جميل زرقته الفاتحة تجلب السلام للنفوس. و حبنا كان أبيضا لكنه لم يحمل الدلالة الإعتيادية للبياض، لقد كان أبيض مخيفا كالكفن، أبيضا كعالم خال إختفت منه الألوان.
جلست جانبها في أحد الكراسي الموضوعة في الحديقة، حدثتها قليلا ثم أخبرتها بعد ذلك عن ذهابي إلی المقبرة من أجل زیارة أبي و أخي.
كالعادة كل ما أفعل ذلك تنتفض قليلا و كأنها تسمع خبر موتهما من جديد، يعود الألم للإشتعال بعينيها اللتان أصبحتا رمادا بعد الحرائق المهولة التي أكلت كل حياة فيهما.
لم يكن بوسعي أن أخفف عليها بأي طريقة، لو كان بإمكاني لإمتصصت جميع ألمها لأضعها في صدري، ربما حينها تعيش هي مرتاحة و تعود كما كانت. و أنا...لا يهم في الحقيقة ما سيحدث لي.
صعدت إلی غرفتي وأخذت إحدی كتبي المفضلة لأقرأِها ، لعلي أنسی بين سطورها و وهمها قلیلا من ألامي .
حین حملته سقطت من بین أوراقه وردة بيضاء مجففة ، تحول لونها إلى أصفر باهث بسبب عوامل الزمن، لقد كانت هذهِ هي أول وردة أهدیتهِا لي ، حین إعترفت لي بحبك ،كانت وردة واحدة ، لكنها كانت أغلی من ورود العالم مجتمعة، دائما كنت قنوعة أرتضي بالقليل معك، فإستكثرت علي هذا القليل أيضا، من أي معدن صيغ قلبك القاسي، فحتى الحديد يلين، بينما أنت صلب لا تلين، الرحمة، الرحمة يا معذبي ما أنا إلا عاشقة أنهكها الحب، ما أنا إلا إمرأة قد إتخذت من حبك حياة، فلا تحرمني منها يا من إليه نذرت عمري.
كنت لي الماضي والحاضر ، فما أنا بماضيّ أهنأ ،ولا من حاضري أستبشر.
سریعة هي الأِیام ، سریعة أكثر بكثیر من جمیع المقاییس التي كنا نتصور ، تأخذ منا و لا تعطي و لاتزال لأحوالنا تغیر،ولأحلامنا تبخر وتدمر ، لكننا لانزال في قراراتنا نتهور ،لانزال ننسی ولا نتذكر أن الزمان ?له مدبِر ، و أنّ الحاضر بالماضی مثمر ، لانزال للصدف ننتظر نبحث فیها عن حلم مزهِر ، لانزال في أخطائنا نستمر ، و من واقعنا لا نعتبر.
العمر يمضي و الألم لايزال مترسبا على جميع سنينه، فأين الخلاص من كل هذا؟!
انتهى الفصل الثالث
قراءة ممتعة لكم
نورهان الشاعر
